فصل: تفسير الآية رقم (148)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ‏}‏، وَمَا كَانَ قَوْلُ الرِّبِّيْيِنَ- وَ“الْهَاءُ وَالْمِيمُ “ مِنْ ذِكْرِ أَسْمَاءِ الرِّبِّيْيِنَ – ‏{‏إِلَّا أَنْ قَالُوا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ مَا كَانَ لَهُمْ قَوْلٌ سِوَى هَذَا الْقَوْلِ، إِذْ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَمْ يَعْتَصِمُوا، إِذْ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ، إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِمْ، وَبِمَسْأَلَةِ رَبِّهِمُ الْمَغْفِرَةَ وَالنَّصْرَ عَلَى عَدُوِّهِمْ‏.‏ وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏.‏‏.‏

وَأَمَّا ‏(‏الْإِسْرَافُ‏)‏، فَإِنَّهُ الْإِفْرَاطُ فِي الشَّيْءِ‏:‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏أَسْرَفَ فُلَانٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ‏)‏، إِذَا تَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ فَأَفْرَطَ‏.‏

وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا‏:‏ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏:‏ الصِّغَارَ مِنْهَا، وَمَا أَسْرَفْنَا فِيهِ مِنْهَا فَتَخَطَّيْنَا إِلَى الْعِظَامِ‏.‏ وَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، الصَّغَائِرَ مِنْهَا وَالْكَبَائِرَ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏، قَالَ‏:‏ خَطَايَانَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏، خَطَايَانَا وَظُلْمَنَا أَنْفُسِنَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ الْخَطَايَا الْكِبَارَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ‏:‏ الْكَبَائِرُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏، قَالَ‏:‏ خَطَايَانَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ خَطَايَانَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏، فَإِنَّهُ يَقُولُ‏:‏ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَثْبُتُ لِحَرْبِ عَدُوِّكَ وَقِتَالِهِمْ، وَلَا تَجْعَلُنَا مِمَّنْ يَنْهَزِمُ فَيَفِرُّ مِنْهُمْ وَلَا يَثْبُتُ قَدَمُهُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لِحَرْبِهِمْ ‏{‏وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَانْصُرْنَا عَلَى الَّذِينَ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّتَكَ وَنُبُوَّةَ نَبِيِّكَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا هَذَا تَأْنِيبٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ الَّذِينَ فَرُّوا عَنِ الْعَدْوِ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكُوا قِتَالَهُمْ، وَتَأْدِيبٌ لَهُمْ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ هَلَّا فَعَلْتُمْ إِذْ قِيلَ لَكُمْ‏:‏ ‏(‏قُتِلَ نَبِيُّكُمْ‏)‏- كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ الرِّبِّيُّونَ، الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ إِذْ قُتِلَتْ أَنْبِيَاؤُهُمْ‏.‏ فَصَبَرْتُمْ لِعَدُوِّكُمْ صَبْرَهُمْ، وَلَمْ تَضْعُفُوا وَتَسْتَكِينُوا لِعَدُوِّكُمْ، فَتُحَاوِلُوا الِارْتِدَادَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، كَمَا لَمْ يَضْعُفْ هَؤُلَاءِ الرِّبِّيُّونَ وَلَمْ يَسْتَكِينُوا لِعَدْوِهِمْ، وَسَأَلْتُمْ رَبَّكُمُ النَّصْرَ وَالظَّفْرَ كَمَا سَأَلُوا، فَيَنْصُرُكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا نُصِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَنْ صَبْرٍ لِأَمْرِهِ وَعَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِ، فَيُعْطِيهِ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَى عَدْوِهِ‏؟‏‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏، أَيْ‏:‏ فَقُولُوا كَمَا قَالُوا، وَاعْلَمُوا أَنَمَا ذَلِكَ بِذُنُوبٍ مِنْكُمْ، وَاسْتَغْفَرُوا كَمَا اسْتَغْفَرُوا، وَامْضُوا عَلَى دِينِكُمْ كَمَا مَضَوْا عَلَى دِينِهِمْ، وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ رَاجِعِينَ، وَاسْأَلُوهُ كَمَا سَأَلُوهُ أَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَكُمْ، وَاسْتَنْصِرُوهُ كَمَا اسْتَنْصَرُوهُ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏.‏ فَكُلُّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ قَدْ كَانَ وَقَدْ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلْتُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ‏}‏ النَّصْبُ لِإِجْمَاعِ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا وِرَاثَةً عَنِ الْحُجَّةِ‏.‏ وَإِنَّمَا اخْتِيرَ النَّصْبُ فِي ‏(‏الْقَوْلِ‏)‏، لِأَنَّ “أَنْ “ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعْرِفَةً، فَكَانَتْ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ هِيَ الِاسْمُ، دُونَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ مَعْرِفَةٌ أَحْيَانًا وَنَكِرَةٌ أَحْيَانًا، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ النَّصْبُ فِي كُلِّ اسْمٍ وَلِيَ “كَانَ “ إِذَا كَانَ بَعْدَهُ “أَنْ “ الْخَفِيفَةُ‏:‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 24‏]‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 23‏]‏ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي يَلِي “كَانَ “ اسْمًا مَعْرِفَةً، وَالَّذِي بَعْدَهُ مِثْلُهُ، فَسَوَاءٌ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ فِي الَّذِي وَلِيَ “كَانَ “‏.‏ فَإِنْ جَعَلْتَ الَّذِي وَلِيَ “كَانَ “ هُوَ الِاسْمُ، رَفَعَتْهُ وَنَصَبْتَ الَّذِي بَعْدَهُ‏.‏ وَإِنْ جَعَلْتَ الَّذِي وَلِيَ “كَانَ “ هُوَ الْخَبَرُ، نَصَبْتَهُ وَرَفَعْتَ الَّذِي بَعْدَهُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الرُّومِ‏:‏ 10‏]‏ إِنْ جَعَلْتَ “الْعَاقِبَةَ “ الِاسْمَ رَفَعْتَهَا، وَجَعَلْتَ “السُّوءَى “ هِيَ الْخَبَرُ مَنْصُوبَةً‏.‏ وَإِنْ جَعَلْتَ “الْعَاقِبَةَ “ الْخَبَرَ، نَصَبْتَ فَقُلْتَ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى‏)‏، وَجَعَلْتَ “السُّوءَى “ هِيَ الِاسْمُ، فَكَانَتْ مَرْفُوعَةً، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

لَقَـدْ عَلِـمَ الْأَقْـوَامُ مَـا كَـانَ دَاءَهَـا *** بِثَهْـلَانَ إِلَّا الْخِـزْيُ مِمَّـنْ يَقُودُهَـا

وَرُوِيَ أَيْضًا‏:‏ ‏(‏مَا كَانَ دَاؤُهَا بِثَهْلَانَ إِلَّا الْخِزْيَ‏)‏، نَصْبًا وَرَفْعًا عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ‏.‏ وَلَوْ فُعِلَ مِثْلُ ذَلِكَ مَعَ “أَنْ “ كَانَ جَائِزًا، غَيْرُ أَنَّ أَفْصَحَ الْكَلَامِ مَا وَصَفْتُ عِنْدَ الْعَرَبِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَأَعْطَى اللَّهُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ، مِنَ الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بَعْدَ مَقْتَلِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَعَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي أُمُورِهِمْ، وَاقْتِفَائِهِمْ مَنَاهِجَ إِمَامِهِمْ عَلَى مَا أَبْلَوْا فِي اللَّهِ- ‏{‏ثَوَابَ الدُّنْيَا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ جَزَاءٌ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ‏:‏ النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَعَدُوِّ اللَّهِ، وَالظَّفْرُ، وَالْفَتْحُ عَلَيْهِمْ، وَالتَّمْكِينِ لَهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَخَيْرَ جَزَاءِ الْآخِرَةِ عَلَى مَا أَسْلَفُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَعْمَالِهِمِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ‏:‏ الْجَنَّةُ وَنَعِيمُهَا، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏، أَيْ وَاللَّهُ، لَآتَاهُمُ اللَّهُ الْفَتْحَ وَالظُّهُورَ وَالتَّمْكِينَ وَالنَّصْرَ عَلَى عَدُوِّهِمْ فِي الدُّنْيَا ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ حُسْنُ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، هِيَ الْجَنَّةُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ‏}‏، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ رِضْوَانُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا‏}‏، الظُّهُورُ عَلَى عَدُوِّهِمْ ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ‏}‏، الْجَنَّةُ وَمَا أَعَدَّ فِيهَا وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ بِإِحْسَانِهِمْ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ الَّذِي وَصَفَ عَنْهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ حِينَ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ‏{‏إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى- فِيمَا يَأْمُرُونَكُمْ بِهِ وَفِيمَا يَنْهَوْنَكُمْ عَنْهُ- فَتَقْبَلُوا رَأْيَهُمْ فِي ذَلِكَ وَتَنْتَصِحُوهُمْ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَكُمْ فِيهِ نَاصِحُونَ ‏{‏يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ يَحْمِلُوكُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَبِرَسُولِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ‏{‏فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَتَرْجِعُوا عَنْ إِيمَانِكُمْ وَدِينِكُمُ الَّذِي هَدَاكُمُ اللَّهُ لَهُ ‏{‏خَاسِرِينَ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ هَالِكِينَ، قَدْ خَسِرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَضَلَلْتُمْ عَنْ دِينِكُمْ، وَذَهَبَتْ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتُكُمْ‏.‏‏.‏

يَنْهَى بِذَلِكَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ أَنْ يُطِيعُوا أَهْلَ الْكُفْرِ فِي آرَائِهِمْ، وَيَنْتَصِحُوهُمْ فِي أَدْيَانِهِمْ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ‏}‏، أَيْ‏:‏ عَنْ دِينِكُمْ‏:‏ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتُكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ لَا تَنْتَصِحُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى دِينِكُمْ، وَلَا تُصَدِّقُوهُمْ بِشَيْءٍ فِي دِينِكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنْ تُطِيعُوا أَبَا سُفْيَانَ، يَرُدَّكُمْ كُفَّارًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ مُسَدِّدُكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَمُنْقِذُكُمْ مِنْ طَاعَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ‏}‏، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏، نَهْيًا لَهُمْ عَنْ طَاعَتِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ‏}‏، فَأَطِيعُوهُ، دُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَهُوَ خَيْرُ مَنْ نَصَرَ‏.‏ وَلِذَلِكَ رَفَعَ اسْمَ ‏(‏اللَّهِ‏)‏، وَلَوْ كَانَ مَنْصُوبًا عَلَى مَعْنَى‏:‏ بَلْ أَطِيعُوا اللَّهَ مَوْلَاكُمْ، دُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا كَانَ وَجْهًا صَحِيحًا‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ‏}‏، وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ‏}‏، لَا مَنْ فَرَرْتُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ‏.‏ فَبِاللَّهِ الَّذِي هُوَ نَاصِرُكُمْ وَمَوْلَاكُمْ فَاعْتَصَمُوا، وَإِيَّاهُ فَاسْتَنْصَرُوا، دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَبْغِيكُمُ الْغَوَائِلَ، وَيَرْصُدُكُمْ بِالْمَكَارِهِ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ‏}‏، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ صِدْقًا فِي قُلُوبِكُمْ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ‏}‏، أَيْ‏:‏ فَاعْتَصِمُوا بِهِ وَلَا تَسْتَنْصِرُوا بِغَيْرِهِ، وَلَا تَرْجِعُوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ مُرْتَدِّينَ عَنْ دِينِكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِمَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ سَيُلْقِي اللَّهُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ‏{‏فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ بِرَبِّهِمْ، وَجَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّنْ حَارَبَكُمْ بِأُحُدٍ ‏(‏الرُّعْبَ‏)‏، وَهُوَ الْجَزَعُ وَالْهَلَعُ ‏{‏بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ بِشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَعِبَادَتِهِمِ الْأَصْنَامَ، وَطَاعَتِهِمِ الشَّيْطَانَ الَّتِي لَمْ أَجْعَلُ لَهُمْ بِهَا حُجَّةً وَهِيَ “السُّلْطَانُ “ الَّتِي أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَمْ يُنَـزِّلْهُ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ‏.‏

وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَالْفَلْجِ عَلَيْهِمْ، مَا اسْتَقَامُوا عَلَى عَهْدِهِ، وَتَمَسَّكُوا بِطَاعَتِهِ‏.‏ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ مَا هُوَ فَاعِلٌ بِأَعْدَائِهِمْ بَعْدَ مَصِيرِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَمَرْجِعُهُمُ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، النَّارُ ‏{‏وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَبِئْسَ مَقَامُ الظَّالِمِينَ- الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِاكْتِسَابِهِمْ مَا أَوْجَبَ لَهَا عِقَابَ اللَّهِ- النَّارُ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ‏}‏، إِنِّي سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الَّذِي بِهِ كُنْتُ أَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ، بِمَا أَشْرَكُوا بِي مَا لَمْ أَجْعَلْ لَهُمْ بِهِ حُجَّةً، أَيْ‏:‏ فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ لَهُمْ عَاقِبَةَ نَصْرٍ وَلَا ظُهُورٍ عَلَيْكُمْ، مَا اعْتَصَمْتُمْ وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرِي، لِلْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْكُمْ مِنْهُمْ بِذُنُوبٍ قَدَّمْتُمُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ، خَالَفْتُمْ بِهَا أَمْرِي، وَعَصَيْتُمْ فِيهَا نَبِيَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ لَمَّا ارْتَحَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مُتَوَجِّهِينَ نَحْوَ مَكَّةَ، انْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ‏.‏ ثُمَّ إِنَّهُمْ نَدِمُوا فَقَالُوا‏:‏ بِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ، إِنَّكُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّرِيدُ تَرَكْتُمُوهُمْ‏!‏ ارْجِعُوا فَاسْتَأْصَلُوهُمْ‏!‏ فَقَذَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قُلُوبِهِمِ الرُّعْبَ، فَانْهَزَمُوا‏.‏ فَلَقُوا أَعْرَابِيًّا، فَجَعَلُوا لَهُ جُعْلًا وَقَالُوا لَهُ‏:‏ إِنْ لَقِيْتَ مُحَمَّدًا فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَدْ جَمَعْنَا لَهُمْ‏.‏ فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَلَبَهُمْ حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَبَا سُفْيَانَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا قُذِفَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الرُّعْبِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ‏}‏، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ وَعْدَهُ الَّذِي وَعَدَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَ “الْوَعْدُ “ الَّذِي كَانَ وَعَدَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ بِأُحُدٍ، قَوْلُهُ لِلرُّمَاةِ‏:‏ ‏(‏اثْبُتُوا مَكَانَكُمْ وَلَا تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ هَزَمْنَاهُمْ، فَإِنَّا لَنْ نَـزَالَ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ‏)‏‏.‏ وَكَانَ وَعْدُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصْرَ يَوْمَئِذٍ إِنِ انْتَهَوْا إِلَى أَمْرِهِ، كَالَّذِي‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ لَمَّا بَرَزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ، أَمَرَ الرُّمَاةَ، فَقَامُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ فِي وُجُوهِ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ هَزَمْنَاهُمْ، فَإِنَّا لَنْ نَـزَالَ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ،‏)‏ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخَا خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُثْمَانَ، صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ، قَامَ فَقَالَ‏:‏ يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُنَا بِسُيُوفِكُمْ إِلَى النَّارِ، وَيُعَجِّلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى الْجَنَّةِ‏!‏ فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يُعَجِّلُهُ اللَّهُ بِسَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ‏!‏ أَوْ يُعَجِّلُنِي بِسَيْفِهِ إِلَى النَّارِ‏؟‏ فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ‏:‏ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى يُعَجِّلَكَ اللَّهُ بِسَيْفِي إِلَى النَّارِ، أَوْ يُعَجِّلَنِي بِسَيْفِكَ إِلَى الْجَنَّةِ‏!‏ فَضَرَبَهُ عَلَيٌّ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، فَسَقَطَ، فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَقَالَ‏:‏ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، ابْنَ عَمِّ‏!‏ فَتَرَكَهُ‏.‏ فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ أَصْحَابُهُ‏:‏ مَا مَنْعُكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي حِينَ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ‏.‏

ثُمَّ شَدَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْودِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمَاهُمْ، وَحَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ‏.‏ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ حَمَلَ، فَرَمَتْهُ الرُّمَاةُ، فَانْقَمَعَ‏.‏ فَلَمَّا نَظَرَ الرُّمَاةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي جَوْفِ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَهُ، بَادَرُوا الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَا نَتْرُكُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏!‏‏.‏ فَانْطَلَقَ عَامَّتُهُمْ فَلَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ‏.‏ فَلَمَّا رَأَى خَالِدُ قِلَّةَ الرُّمَاةِ صَاحَ فِي خَيْلِهِ، ثُمَّ حَمَلَ فَقَتَلَ الرُّمَاةَ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ أَنَّ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ، تُنَادُوا فَشَدُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ‏:‏ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَلَقِينَا الْمُشْرِكِينَ، أَجْلَسَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا بِإِزَاءِ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخَا خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏(‏لَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا‏)‏‏.‏ فَلَمَّا الْتَقَى الْقَوْمُ، هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى رَأَيْتَ النِّسَاءَ قَدْ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ وَبَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ‏:‏ الْغَنِيمَةَ، الْغَنِيمَةَ‏!‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ مَهْلًا‏!‏ أَمَا عَلِمْتُمْ مَا عَهِدَ إِلَيْكُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏!‏ فَأَبَوْا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صَرَفَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، فَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ قَتِيلًا‏.‏

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏)‏، فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَقْبَلَ فِي ثَلَاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ حَتَّى نَـزَلَ أُحُدًا، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ، فَاجْتَمَعُوا، وَأَمَّرَ عَلَى الْخَيْلِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْكَنَدِيُّ‏.‏ وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّوَاءَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ‏:‏ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ‏.‏ وَخَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ عَبَدَ الْمَطْلَبِ بِالْحُسْرِ، وَبَعَثَ حَمْزَةُ بَيِّنَ يَدَيْهِ‏.‏ وَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ وَمَعَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلٍ‏.‏ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ وَقَالَ‏:‏ اسْتَقْبِلْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَكُنْ بِإِزَائِهِ حَتَّى أُوذِنُكَ‏.‏ وَأَمَرَ بِخَيْلٍ أُخْرَى، فَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُوذِنَكُمْ‏)‏‏.‏ وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَحْمِلُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الزُّبَيْرِ أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدَ فَهَزَمَهُ وَمَنْ مَعَهُ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏}‏، وَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْصُرَهُمْ وَأَنَّهُ مَعَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حَبَّانِ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَالْحَصِينُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا-فِي قِصَّةِ ذَكَرَهَا عَنْ أُحُدٍ- ذَكَرَ أَنَّ كُلَّهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِبَعْضِهَا، وَأَنَّ حَدِيثَهُمُ اجْتَمَعَ فِيمَا سَاقَ مِنَ الْحَدِيثِ، فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَـزَلَ الشَّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ، حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ‏)‏‏.‏ وَقَدْ سَرَّحَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ وَالْكُرَاعَ، فِي زُرُوعٍ كَانَتْ بِالصَّمْغَةِ مِنْ قَنَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِتَالِ‏:‏ أَتَرْعَى زُرُوعُ بَنِي قَيْلَةَ وَلَمَّا نُضَارِبُ‏!‏ وَتَعَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِتَالِ وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، وَتَعَبْأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَبُوهَا، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهِلٍ‏.‏ وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُعَلَمٌ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَالرُّمَاةُ خَمْسُونَ رَجُلًا وَقَال‏:‏ ‏(‏انْضَحْ عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ، لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا‏!‏ إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَاثْبُتْ مَكَانَكَ، لَا نُؤْتِيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ‏)‏‏.‏ فِلْمًا الْتَقَى النَّاسُ وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ‏.‏ وَاقْتَتَلُوا، حَتَّى حَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَقَاتَلَ أَبُو دُجَانَةَ حَتَّى أَمْعَنَ فِي النَّاسِ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبَدِ الْمَطْلَبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبَى طَالِبٍ، فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَصَرَهُ وَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ، فَحَسُّوهُمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى كَشَفُوهُمْ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ لَا شَكَّ فِيهَا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ‏:‏ قَالَ الزُّبَيْرُ‏:‏ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِهِنْدَ ابْنَةِ عَتَبَةَوَصَوَاحِبُهَا مُشَمِّرَاتٌ هَوَارِبُ، مَا دُونُ إِحْدَاهُنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، إِذْ مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأُتِيْنَا مِنْ أَدْبَارِنَا‏.‏ وَصَرَخَ صَارِخٌ‏:‏ أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ‏!‏ فَانْكَفَأْنَا، وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ، حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ‏}‏، أَيْ‏:‏ لَقَدْ وَفَيْتُ لَكُمْ بِمَا وَعَدَتْكُمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى عَدُوِّكُمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ‏}‏، وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏(‏إِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ، فَلَا أَعْرِفُنَّ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ غَنَائِمِهِمْ شَيْئًا، حَتَّى تَفْرَغُوا‏)‏‏!‏ فَتَرَكُوا أَمْرَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَصَوْا، وَوَقَعُوا فِي الْغَنَائِمِ، وَنَسُوا عَهْدَهُ الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ، وَخَالَفُوا إِلَى غَيْرِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَلَقَدْ وَفَى اللَّهُ لَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَا وَعَدَكُمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى عَدُوِّكُمْ بِأُحُدٍ، حِينَ ‏{‏تَحُسُّونَهُمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ حِينَ تَقْتُلُونَهُمْ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏حَسَّهُ يَحُسُّهُ حَسًا‏)‏، إِذَا قَتَلَهُ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عِيسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُسَوَّرِ بْنِ مُخَرَّمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْحَسُّ‏:‏ الْقَتْلُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْقَتْلُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ تَقْتُلُونَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ‏}‏، أَيْ‏:‏ قَتَلًا بِإِذْنِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِذْ تَقْتُلُونَهُمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏، وَالْحَسُّ الْقَتْلُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَقْتُلُونَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ‏}‏ بِالسُّيُوفِ‏:‏ أَيِ الْقَتْلُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ الْقَتْلُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَقْتُلُونَهُمْ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏بِإِذْنِهِ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ بِحُكْمِي وَقَضَائِي لَكُمْ بِذَلِكَ، وَتَسْلِيطِي إِيَّاكُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِي، وَتَسْلِيطِي أَيْدِيَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَفِّي أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ‏}‏، حَتَّى إِذَا جَبُنْتُمْ وَضَعُفْتُمْ ‏{‏وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَاخْتَلَفْتُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ، يَقُولُ‏:‏ وَعَصَيْتُمْ وَخَالَفْتُمْ نَبِيَّكُمْ، فَتَرَكْتُمْ أَمْرَهُ وَمَا عُهِدَ إِلَيْكُمْ‏.‏ وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ الرُّمَاةَ الَّذِينَ كَانَ أَمْرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُزُومِ مَرْكَزِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنْ فَمِ الشِّعْبِ بِأُحُدٍ بِإِزَاءِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ فُرْسَانِ الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَمْرَهُمْ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ مِنْ بَعْدِ الَّذِي أَرَاكُمُ اللَّهُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ، مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفْرِ بِالْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْهَزِيمَةُ الَّتِي كَانُوا هَزَمُوهُمْ عَنْ نِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ قَبْلَ تَرْكِ الرُّمَاةِ مَقَاعِدَهُمُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْعَدَهُمْ فِيهَا، وَقَبْلَ خُرُوجِ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

وَقَدْ مَضَى ذُكِرَ بَعْضِ مَنْ قَالَ‏:‏ وَسَنَذْكُرُ قَوْلَ بَعْضِ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُهُ فِيمَا مَضَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ‏}‏، أَيِ اخْتَلَفْتُمْ فِي الْأَمْرِ ‏{‏وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏}‏، وَذَاكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، عَهِدَ إِلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ فَنَسُوا الْعَهْدَ، وَجَاوَزُوا، وَخَالَفُوا مَا أَمَرَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَذَفَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، بَعْدَ مَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ مَا يُحِبُّونَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ نَاسًا مِنَ النَّاسِ-يَعْنِي‏:‏ يَوْمَ أُحُدٍ- فَكَانُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏كُونُوا هَاهُنَا، فَرُدُّوا وَجْهَ مَنْ فَرَّ مِنَّا، وَكُونُوا حَرَسًا لَنَا مِنْ قِبَلِ ظُهُورِنَا‏)‏‏.‏ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَزَمَ الْقَوْمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ الَّذِينَ كَانُوا جُعِلُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، لَمَّا رَأَوُا النِّسَاءَ مُصْعِدَاتٍ فِي الْجَبَلِ وَرَأَوُا الْغَنَائِمَ، قَالُوا‏:‏ ‏(‏انْطَلَقُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكُوا الْغَنِيمَةَ قَبْلَ أَنْ تُسْبَقُوا إِلَيْهَا‏)‏‏!‏ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى‏:‏ ‏(‏بَلْ نُطِيعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَثْبُتُ مَكَانَنَا‏)‏‏!‏ فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏، لِلَّذِينِ أَرَادُوا الْغَنِيمَةَ ‏{‏وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏، لِلَّذِينِ قَالُوا‏:‏ ‏(‏نُطِيعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَثْبُتُ مَكَانَنَا “‏.‏ فَأْتُوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فَشَلًا حِينَ تَنَازَعُوا بَيْنَهُمْ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏)‏، كَانُوا قَدْ رَأَوُا الْفَتْحَ وَالْغَنِيمَةَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏(‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ جَبُنْتُمْ عَنْ عَدُوِّكُمْ “وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ اخْتَلَفْتُمْ ‏{‏وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏}‏، وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏(‏إِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ، فَلَا أَعْرِفَنَّ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ غَنَائِمِهِمْ شَيْئًا حَتَّى تَفْرَغُوا‏)‏، فَتَرَكُوا أَمْرَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَصَوْا، وَوَقَعُوا فِي الْغَنَائِمِ، وَنَسُوا عَهْدَهُ الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ، وَخَالَفُوا إِلَى غَيْرِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَانْقَذَفَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ، مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاهُمْ فِيهِمْ مَا يُحِبُّونَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ‏:‏ ‏(‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ‏)‏، قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الْفَشَلُ‏:‏ الْجُبْنُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏}‏، مِنَ الْفَتْحِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ‏}‏، أَيْ تَخَاذَلْتُمْ ‏{‏وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ‏}‏، أَيْ‏:‏ اخْتَلَفْتُمْ فِي أَمْرِي ‏{‏وَعَصَيْتُمْ‏}‏، أَيْ‏:‏ تَرَكْتُمْ أَمْرَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَمَا عَهِدَ إِلَيْكُمْ، يَعْنِي الرُّمَاةَ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏}‏، أَيْ‏:‏ الْفَتْحُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهَزِيمَةُ الْقَوْمِ عَنْ نِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ ‏(‏مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ مِنَ الْفَتْحِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏}‏ حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ فَشِلْتُمْ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ وَأَنَّهُ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ، وَإِنَّ “الْوَاوَ “ دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَمَعْنَاهَا السُّقُوطُ، كَمَا يُقَالُ، ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الصَّافَّاتِ‏:‏ 104‏]‏ مَعْنَاهُ‏:‏ نَادَيْنَاهُ‏.‏ وَهَذَا مَقُولٌ فِي‏:‏ ‏(‏حَتَّى إِذَا‏)‏ وَفِي ‏(‏فَلَمَّا أَنْ‏)‏‏.‏ ‏[‏لَمْ يَأْتِ فِي غَيْرِ هَذَيْنَ‏]‏‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ‏}‏ ثُمَّ قَالَ ‏{‏وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وَمَعْنَاهُ‏:‏ اقْتَرَبَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

حَـتَّى إِذَا قَمِلَـتْ بُطُـونُكُمُ *** وَرَأَيْتُـمُ أَبْنَـاءَكُمْ شَـبُّوا

وَقَلَبْتُـمْ ظَهْـرَ الْمِجَـنِّ لَنَـا *** إِنَّ اللَّئِـيمَ الْعَـاجِزَ الْخَـبُّ

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، الَّذِينَ تَرَكُوا مَقْعَدَهُمُ الَّذِي أَقْعَدَهُمْ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ لِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَحِقُوا بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ طَلَبَ النَّهْبِ إِذْ رَأَوْا هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ ‏{‏وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ الَّذِينَ ثَبَتُوا مِنَ الرُّمَاةِ فِي مَقَاعِدِهِمِ الَّتِي أَقْعَدَهُمْ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَهُ، مُحَافَظَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمَنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏، فَالَّذِينَ انْطَلَقُوا يُرِيدُونَ الْغَنِيمَةَ هُمْ أَصْحَابُ الدُّنْيَا، وَالَّذِينَ بَقُوا وَقَالُوا‏:‏ لَا نُخَالِفُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرَادُوا الْآخِرَةَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ يَوْمِ أُحُدٍ طَائِفَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏كُونُوا مَسْلَحَةً لِلنَّاسِ‏)‏، بِمَنْـزِلَةٍ أَمْرَهُمْ أَنْ يُثْبِتُوا بِهَا، وَأَمْرَهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مَكَانَهُمْ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ‏.‏ فَلَمَّا لَقِيَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، هَزَمَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏!‏ فَلَمَّا رَأَى الْمُسَلَّحَةُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هَزَمَ الْمُشْرِكِينَ، انْطَلَقَ بَعْضُهُمْ وَهُمْ يَتَنَادَوْنَ‏:‏ الْغَنِيمَةَ‏!‏ الْغَنِيمَةَ‏!‏ لَا تَفُتْكُمْ‏!‏ وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ مَكَانُهُمْ، وَقَالُوا‏:‏ لَا نَرِيمُ مَوْضِعَنَا حَتَّى يَأْذَنَ لَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏!‏‏.‏ فَفِي ذَلِكَ نَـزَلَ‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ‏:‏ مَا شَعُرْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ الرُّمَاةُ‏:‏ ‏(‏أَدْرَكُوا النَّاسَ وَنَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْبِقُوكُمْ إِلَى الْغَنَائِمِ، فَتَكُونُ لَهُمْ دُونَكُمْ‏)‏‏!‏ وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏لَا نَرِيمُ حَتَّى يَأْذَنَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏)‏‏.‏ فَنَـزَلَتْ‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏، قَالَ‏:‏ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ مَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا، حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْتَرُّونَ الْغَنَائِمَ ‏{‏وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏، الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ يَقْتُلُونَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ مَا كُنْتُ أَرَى أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى نَـزَلَ فِينَا يَوْمَ أُحُدٍ‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ مَا كُنْتُ أَظُنُّ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ أَحَدًا يُرِيدُ الدُّنْيَا، حَتَّى قَالَ اللَّهُ مَا قَالَ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا رَآهُمْ وَقَعُوا فِي الْغَنَائِمِ‏:‏ مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى كَانَ الْيَوْمَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ‏:‏ مَا شَعَرْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا، حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏، أَيْ‏:‏ الَّذِينَ أَرَادُوا النَّهْبَ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَتَرْكَ مَا أَمَرُّوا بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي عَلَيْهَا ثَوَابُ الْآخِرَةُ ‏{‏وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏}‏، أَيْ‏:‏ الَّذِي جَاهَدُوا فِي اللَّهِ لَمْ يُخَالِفُوا إِلَى مَا نَهَوْا عَنْهُ لِعَرْضٍ مِنَ الدُّنْيَا رَغْبَةً فِيهَا، رَجَاءَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ثُمَّ صَرَفَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، عَنِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ فِيهِمْ وَفِي أَنْفُسِكُمْ، مِنْ هَزِيمَتِكُمْ إِيَّاهُمْ وَظُهُورُكُمْ عَلَيْهِمْ، فَرَدَّ وُجُوهُكُمْ عَنْهُمْ لِمَعْصِيَتِكُمْ أَمْرَ رَسُولِي، وَمُخَالَفَتَكُمْ طَاعَتَهُ، وَإِيثَارُكُمُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ،- عُقُوبَةً لَكُمْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ، ‏{‏لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لِيَخْتَبِرَكُمْ، فَيَتَمَيَّزُ الْمُنَافِقُ مِنْكُمْ مِنَ الْمُخَلِّصِ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ مِنْكُمْ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ثُمَّ ذَكَرَ حِينَ مَالَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ مُبَارَكِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ صَرَفَ الْقَوْمَ عَنْهُمْ، فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعِدَّةِ مَنْ أَسَرُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ‏؟‏ فَنَـزَلَتْ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 128‏]‏، الْآيَةَ‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ أَلَيْسَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَنَا النَّصْرَ‏؟‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏، أَيْ‏:‏ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَخْتَبِرَكُمْ، وَذَلِكَ بِبَعْضِ ذُنُوبِكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ أَيُّهَا الْمُخَالِفُونَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّارِكُونَ طَاعَتَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ لُزُومِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِلُزُومِهِ عَنْكُمْ، فَصَفَحَ لَكُمْ مِنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِكُمُ الَّذِي أَتَيْتُمُوهُ، عَمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا عَاقَبَكُمْ بِهِ مِنْ هَزِيمَةِ أَعْدَائِكُمْ إِيَّاكُمْ، وَصَرَفَ وُجُوهَكُمْ عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يَسْتَأْصِلْ جَمْعَكُمْ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَالَ الْحَسَنُ، وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ‏:‏ وَكَيْفَ عَفَا عَنْهُمْ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَقُتِلَ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏(‏قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ إِذْ عَصَيْتُمُونِي، أَنْ لَا أَكُونَ اسْتَأْصَلَتُكُمْ‏)‏‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ يَقُولُ الْحَسَنُ‏:‏ هَؤُلَاءِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ غِضَابٌ لِلَّهِ، يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ، نَهَوْا عَنْ شَيْءٍ فَصَنَعُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكُوا حَتَّى غُمُّوا بِهَذَا الْغَمِّ، فَأَفْسَقُ الْفَاسِقِينَ الْيَوْمَ يَتَجَرْثَمُ كُلَّ كَبِيرَةٍ، وَيَرْكَبُ كُلَّ دَاهِيَةٍ، وَيَسْحَبُ عَلَيْهَا ثِيَابَهُ، وَيَزْعُمُ أَنْ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ‏!‏‏!‏ فَسَوْفَ يَعْلَمُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَمْ يَسْتَأْصِلْكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْ عَظِيمٍ ذَلِكَ، لَمْ يُهْلِكْكُمْ بِمَا أَتَيْتُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ نَبِيِّكُمْ، وَلَكِنْ عُدْتُ بِفَضْلِي عَلَيْكُمْ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَاللَّهُ ذُو طَوْلٍ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، بِعَفْوِهِ لَهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَإِنْ عَاقَبَهُمْ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، فَذُو إِحْسَانٍ إِلَيْهِمْ بِجَمِيلِ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَكَذَلِكَ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ عَاقَبَهُمْ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا أَدَبًا وَمَوْعِظَةً، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْصِلٍ لِكُلِّ مَا فِيهِمْ مِنَ الْحَقِّ لَهُ عَلَيْهِمْ، لِمَا أَصَابُوا مِنْ مَعْصِيَتِهِ، رَحْمَةً لَهُمْ وَعَائِدَةً عَلَيْهِمْ، لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِذْ لَمْ يَسْتَأْصِلْكُمْ، إِهْلَاكًا مِنْهُ جَمْعَكُمْ بِذُنُوبِكُمْ وَهَرَبِكُمْ “إِذْ تَصْعَدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ “‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ سِوَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ بِضَمِّ “التَّاءِ “ وَكَسْرِ “الْعَيْنِ “‏.‏ وَبِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهِ، وَاسْتِنْكَارِهِمْ مَا خَالَفَهُ‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏، بِفَتْحِ “التَّاءِ “ وَ“الْعَيْنِ “‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيدٍ، عَنِ الْحَسَنِ‏.‏

فَأَمَّا الَّذِينَ قَرَأَوا‏:‏ ‏{‏تُصْعِدُونَ‏}‏ بِضَمِّ “التَّاءِ “ وَكَسْرِ ‏(‏الْعَيْنِ‏)‏، فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ حِينَ انْهَزَمُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ، أَخَذُوا فِي الْوَادِي هَارِبِينَ‏.‏ وَذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أَبِي‏:‏ ‏(‏إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا ‏[‏بِذَلِكَ‏]‏ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ‏.‏

قَالُوا‏:‏ فَالْهَرَبُ فِي مُسْتَوَى الْأَرْضِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ‏:‏ ‏(‏إِصْعَادٌ‏)‏، لَا صُعُودَ‏.‏ قَالُوا وَإِنَّمَا يَكُونُ “الصُّعُودُ “ عَلَى الْجِبَالِ وَالسَّلَالِيمِ وَالدَّرَجِ، لِأَنَّ مَعْنَى ‏(‏الصُّعُودِ‏)‏، الِارْتِقَاءُ وَالِارْتِفَاعُ عَلَى الشَّيْءِ عُلْوًا‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَأَمَّا الْأَخْذُ فِي مُسْتَوَى الْأَرْضِ وَالْهُبُوطُ، فَإِنَّمَا هُوَ ‏(‏إِصْعَادٌ‏)‏، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏أَصْعَدْنَا مِنْ مَكَّةَ‏)‏، إِذَا ابْتَدَأْتَ فِي السَّفَرِ مِنْهَا وَالْخُرُوجِ “وَأَصْعَدْنَا

مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى خُرَاسَانَ ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ خَرَجْنَا مِنْهَا سَفَرًا إِلَيْهَا، وَابْتَدَأْنَا مِنْهَا الْخُرُوجَ إِلَيْهَا‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَإِنَّمَا جَاءَ تَأْوِيلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، بِأَنَّ الْقَوْمَ أَخَذُوا عِنْدَ اِنْهِزَامِهِمْ عَنْ عَدْوِهِمْ فِي بَطْنِ الْوَادِي‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ‏}‏، ذَاكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، اصَّعَّدُوا فِي الْوَادِي فِرَارًا، وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ‏:‏ ‏"‏إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ‏"‏‏!‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا الْحَسَنُ، فَإِنِّي أَرَاهُ ذَهَبَ فِي قِرَاءَتِهِ‏:‏ ‏"‏إِذْ تَصْعَدُونَ ‏"‏بِفَتْحِ ‏"‏التَّاء‏"‏ وَ ‏"‏العَيْنِ ‏"‏، إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ حِينَ اِنْهَزَمُوا عَنِ الْمُشْرِكِينَ صَعِدُوا الْجَبَلَ‏.‏ وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ لَمَّا شَدَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُحُدٍ فَهَزَمُوهُمْ، دَخَلَ بَعْضُهُمُ الْمَدِينَةَ، وَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ الْجَبَلِ إِلَى الصَّخْرَةِ فَقَامُوا عَلَيْهَا، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ‏:‏ ‏"‏إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ‏"‏‏!‏ فَذَكَرَ اللَّهُ صُعُودَهُمْ عَلَى الْجَبَلِ، ثُمَّ ذَكَرَ دُعَاءَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ انْحَازُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلُوا يَصْعَدُونَ فِي الْجَبَلِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ‏}‏، قَالَ صَعِدُوا فِي أُحُدٍ فِرَارًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏"‏إِذْ تُصْعِدُونَ ‏"‏، بِضَمِّ ‏"‏التَّاءِ ‏"‏ وَكَسْرِ ‏"‏الْعَيْنِ ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ السَّبْقُ وَالْهَرَبُ فِي مُسْتَوَى الْأَرْضِ، أَوْ فِي الْمَهَابِطِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ‏.‏ فَفِي إِجْمَاعِهَا عَلَى ذَلِكَ، الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ، تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏اصَّعَّدُوا فِي الْوَادِي وَمَضَوْا فِيهِ ‏"‏، دُونَ قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏صَعِدُوا عَلَى الْجَبَلِ ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَلَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ، وَلَا يَلْتَفِتُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، هَرَبًا مِنْ عَدُوِّكُمْ مُصْعِدِينَ فِي الْوَادِي‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ ‏"‏فِي أُخْرَاكُمْ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُ يُنَادِيكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ‏:‏ ‏"‏إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ‏"‏‏!‏‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ارْجِعُوا‏!‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏، رَأَوْا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ‏:‏ ‏"‏إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ‏"‏‏!‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ مَثَلُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، أَنَّبَهُمُ اللَّهُ بِالْفِرَارِ عَنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ، لَا يَعْطِفُونَ عَلَيْهِ لِدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏إِذْ ‏{‏تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏، هَذَا يَوْمُ أُحُدٍ حِينَ انْكَشَفَ النَّاسُ عَنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ فَجَازَاكُمْ بِفِرَارِكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ، وَفَشَلِكُمْ عَنْ عَدُوِّكُمْ، وَمَعْصِيَتِكُمْ رَبَّكُمْ ‏"‏غَمًّا بِغَمٍّ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ غَمًّا عَلَى غَمٍّ‏.‏

وَسَمَّى الْعُقُوبَةَ الَّتِي عَاقَبَهُمْ بِهَا مِنْ تَسْلِيطِ عَدُّوِّهِمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَالَ مِنْهُمْ مَا نَالَ ‏"‏ثَوَابًا ‏"‏، إِذْ كَانَ عِوَضًا مِنْ عَمَلِهِمُ الَّذِي سَخِطَهُ وَلَمْ يَرْضَهُ مِنْهُمْ، فَدَلَّ بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ كَانَ لِمُعَوَّضٍ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعَمَلِ، خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا أَوْ الْعِوَضِ الَّذِي بَذَلَهُ رَجُلٌ لِرَجُلٍ، أَوْ يَدٍ سَلَفَتْ لَهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ اسْمَ ‏"‏ثَوَابٍ ‏"‏، كَانَ ذَلِكَ الْعِوَضُ تَكْرِمَةً أَوْ عُقُوبَةً، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

أخَـافُ زِيَـادًا أَنْ يَكُـونَ عَطَـاؤُهُ *** أدَاهِـمَ سُـودًا أَوْ مُحَدْرَجَـةً سُـمْرَا

فَجَعَلَ ‏"‏الْعَطَاءَ ‏"‏ الْقُيُودَ‏.‏ وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِآخَرَ سَلَفَ إِلَيْهِ مِنْهُ مَكْرُوهٌ‏:‏ ‏"‏لِأُجَازِيَنَّكَ عَلَى فِعْلِكَ، وَلَأُثِيبَنَّكَ ثَوَابَكَ ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏غَمًّا بِغَمٍّ ‏"‏، فَإِنَّهُ قِيلَ‏:‏ ‏"‏غَمًّا بِغَمٍّ ‏"‏، مَعْنَاهُ‏:‏ غَمًّا عَلَى غَمٍّ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ طَهَ‏:‏ 71‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ‏.‏ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏أَثَابَكَ اللَّهُ غَمًّا عَلَى غَمٍّ ‏"‏، جَزَاكَ اللَّهُ غَمًّا بَعْدَ غَمٍّ تَقَدَّمَهُ، فَكَانَ كَذَلِكَ مَعْنَى‏:‏ ‏"‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ‏"‏، لِأَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ فَجَزَاكُمُ اللَّهُ غَمًّا بِعَقِبِ غَمٍّ تَقَدَّمَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏نَـزَلْتُ بِبَنِي فُلَانٍ، وَنـَزَلْتُ عَلَى بَنِي فُلَانٍ ‏"‏، ‏"‏وَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ وَعَلَى السَّيْفِ ‏"‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْغَمِّ الَّذِي أُثِيبَ الْقَوْمُ عَلَى الْغَمِّ، وَمَا كَانَ غَمُّهُمُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي‏؟‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏أَمَّا الْغَمُّ الْأَوَّلُ، فَكَانَ مَا تَحَدَّثَ بِهِ الْقَوْمُ أَنَّ نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ‏.‏ وَأَمَّا الْغَمُّ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ كَانَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ ‏"‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ‏}‏، كَانُوا تَحَدَّثُوا يَوْمَئِذٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُصِيبَ، وَكَانَ الْغَمُّ الْآخَرُ قَتْلَ أَصْحَابِهِمْ وَالْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِتَّةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ مَا فَاتَكُمْ مِنْ غَنِيمَةِ الْقَوْمِ ‏"‏وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ‏"‏، فِي أَنْفُسِكُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحَاتِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فِرَّةٌ بَعْدَ فِرَّةٍ‏:‏ الْأُولَى حِينَ سَمِعُوا الصَّوْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وَالثَّانِيَةُ حِينَ رَجَعَ الْكُفَّارُ، فَضَرَبُوهُمْ مُدَبَّرِينَ، حَتَّى قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا ثُمَّ انْحَازُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلُوا يَصْعَدُونَ فِي الْجَبَلِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏"‏بَلْ غَمُّهُمُ الْأَوَّلُ كَانَ قَتْلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَجُرِحَ مَنْ جُرِحَ مِنْهُمْ‏.‏ وَالْغَمُّ الثَّانِي كَانَ مِنْ سَمَاعِهِمْ صَوْتَ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏قُتِلَ مُحَمَّدٌ ‏"‏، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏غَمًّا بِغَمٍّ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْغَمُّ الْأَوَّلُ‏:‏ الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ، وَالْغَمُّ الثَّانِي حِينَ سَمِعُوا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ‏.‏ فَأَنْسَاهُمُ الْغَمُّ الْآخَرُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ، وَمَا كَانُوا يَرْجُونَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْغَمُّ الْأَوَّلُ الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ، وَالْغَمُّ الْآخَرُ حِينَ سَمِعُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ‏.‏ فَأَنْسَاهُمُ الْغَمُّ الْآخَرُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ، وَمَا كَانُوا يَرْجُونَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏"‏بَلِ الْغَمُّ الْأَوَّلُ مَا كَانَ فَاتَهُمْ مِنَ الْفَتْحِ وَالْغَنِيمَةِ، وَالثَّانِي إِشْرَافُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهِمْ فِي الشِّعْبِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ-فِيمَا زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ- لِمَا أَصَابَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَ، وَهَرَبَ الْمُسْلِمُونَ، جَاءَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَعْبِ أُحُدٍ، الَّذِي كَانُوا وَلَّوْا إِلَيْهِ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ، فَخَافُوا أَنْ يَصْطَلِمَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ‏.‏

ذَكَرَ الْخَبَرَ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَدْعُو النَّاسَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ‏.‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ، وَضْعَ رَجُلٌ سَهْمًا فِي قَوْسِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْمِيَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏أَنَا رَسُولُ اللَّهِ‏!‏ ‏"‏، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ حِينَ وَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا، وَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ رَأَى أَنَّ فِي أَصْحَابِهِ مَنْ يَمْتَنِعُ‏.‏ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا وَفِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَهَبَ عَنْهُمُ الْحُزْنُ، فَأَقْبَلُوا يَذْكُرُونَ الْفَتْحَ وَمَا فَاتَهُمْ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ أَصْحَابَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا‏.‏

فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ، نَسُوا ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَهَمَّهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا، اللَّهُمَّ إِنْ تَقْتُلْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ‏!‏‏)‏‏.‏ ثُمَّ نَدَبَ أَصْحَابَهُ فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَنْـزَلُوهُمْ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ‏:‏ ‏"‏اعْلُ هُبَلُ‏!‏ حَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ، وَيَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ‏!‏ وَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ، وَكَانَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَكَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكَُمْ‏!‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعُمَرَ‏:‏ ‏(‏قُلِ اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكَُمْ‏)‏‏!‏ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ فِيكُمْ مُحَمَّدٌ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ‏!‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّا إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ فِيكُمْ مُثْلَةٌ، مَا أَمَرْتُ بِهَا، وَلَا نَهَيْتُ عَنْهَا، وَلَا سَرَّتْنِي، وَلَا سَاءَتْنِي‏)‏‏!‏ فَذَكَرَ اللَّهُ إِشْرَافَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏، الْغَمُّ الْأَوَّلُ‏:‏ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ، وَالْغَمُّ الثَّانِي‏:‏ إِشْرَافُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ ‏{‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ‏}‏، مِنَ الْغَنِيمَةِ ‏{‏وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏ مِنَ الْقَتْلِ حِينَ تَذْكُرُونَ‏.‏ فَشَغَلَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَالْحَصِينُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ حَدِيثِ أُحُدٍ، قَالُوا‏:‏ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ-لِمَا أَصَابَهُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ- أَثْلَاثًا، ثُلْثٌ قَتِيلٌ، وَثُلْثٌ جَرِيحٌ، وَثُلْثٌ مُنْهَزِمٌ، وَقَدْ بَلَغَتْهُ الْحَرْبُ حَتَّى مَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ وَحَتَّى خَلَصَ الْعَدُوُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدُثَّ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وَقَعَ لِشِقِّهِ، وَأُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَكُلِمَتْ شَفَتُهُ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ‏.‏ وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ لِوَاؤُهُ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ ابْنُ قَمِيئَةَ اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏قَتَلْتُ مُحَمَّدًا‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَقَوْلِ النَّاسِ‏:‏ ‏"‏قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏ كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ قَالَ‏:‏ عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ تُزْهِرَانِ تَحْتَ الْمِغْفَرِ، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي‏:‏ ‏(‏يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ‏:‏ أَبْشِرُوا، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏)‏‏!‏ فَأَشَارَ إِلَيَّ رُسُولُ اللَّهِ أَنْ أَنْصِتْ‏.‏ فَلَمَّا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَضُوا بِهِ، وَنَهَضَ نَحْوَ الشِّعْبِ، مَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرٍِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَةِ، فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ وَمَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِذْ عَلَتْ عَالِيَةٌ مَنْ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا‏)‏ فَقَاتَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَهْطٌ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ عَنِ الْجَبَلِ‏.‏ وَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَخْرَةٍ مِنَ الْجَبَلِ لِيَعْلُوَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَدِنَ، فَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، فَلِمَا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، جَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ، فَنَهَضَ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا‏.‏

ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ حِينَ أَرَادَ الِانْصِرَافَ، أَشْرَفَ عَلَى الْجَبَلِ ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ‏:‏ ‏"‏أَنْعَمْتَ فَعَّالُ‏!‏ إِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ، يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، اعْلُ هُبَلُ ‏"‏، أَيْ‏:‏ أَظْهِرْ دِينَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ‏:‏ ‏(‏قُمْ فَأَجِبْهُ، فَقُلْ‏:‏ اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ‏!‏ لَا سَوَاءَ‏!‏ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ‏)‏ فَلَمَّا أَجَابَ عُمْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا سُفْيَانَ، قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ ‏(‏هَلُمَّ إِلَيَّ يَا عُمْرُ‏)‏ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏ائْتِهِ فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ‏؟‏‏)‏ فَجَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ أَنْشُدُكَ اللَّهُ يَا عُمْرُ، أَقَتَلْنَا مُحَمَّدًا‏؟‏ فَقَالَ عُمْرُ‏:‏ اللَّهُمَّ لَا وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ كَلَامَكَ الْآنَ‏!‏‏.‏ فَقَالَ‏:‏ أَنْتَ أَصْدَقُ عِنْدِي مِنْ ابْنِ قَمِيئَةَ وَأَبَرُّ‏!‏ لِقَوْلِ ابْنِ قَمِيئَةَ لَهُمْ‏:‏ إِنِّي قَتَلْتُ مُحَمَّدًا ثُمَّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلَاكُمْ‏.‏ مُثْلَةٌ، وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ وَلَا سَخِطْتُ، وَلَا نَهَيْتُ وَلَا أَمَرْتُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏، أَيْ‏:‏ كَرْبًا بَعْدَ كَرْبٍ، قَتْلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَعُلُوُّ عَدُوِّكُمْ عَلَيْكُمْ، وَمَا وَقَعَ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏قُتِلَ نَبِيُّكُمْ ‏"‏، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَابَعَ عَلَيْكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ‏"‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ‏"‏، مِنْ ظُهُورِكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُمُوهُ بِأَعْيُنِكُمْ ‏"‏وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ‏"‏ مِنْ قَتْلِ إِخْوَانِكُمْ، حَتَّى فَرَّجْتُ بِذَلِكَ الْكَرْبِ عَنْكُمْ ‏{‏وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏، وَكَانَ الَّذِي فَرَّجَ بِهِ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكَرْبِ وَالْغَمِّ الَّذِي أَصَابَهُمْ، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَدَّ عَنْهُمْ كِذْبَةَ الشَّيْطَانِ بِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ‏.‏ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا بَيْنَ أَظْهَرِهِمْ، هَانَ عَلَيْهِمْ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْقَوْمِ بَعْدَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ فِي إِخْوَانِهِمْ، حِينَ صَرَفَ اللَّهُ الْقَتْلَ عَنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏"‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ‏"‏، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ أَصَابَ النَّاسَ حُزْنٌ وَغَمٌّ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ فِي أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ قُتِلُوا‏.‏ فَلَمَّا تَوَلَّجُوا فِي الشِّعْبِ وَهُمْ مُصَابُونَ، وَقَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ بِبَابِ الشِّعْبِ، فَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ سَوْفَ يَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَهُمْ أَيْضًا، فَأَصَابَهُمْ حُزْنٌ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَنْسَاهُمْ حُزْنَهُمْ فِي أَصْحَابِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ‏}‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَلَى مَا فَاتَكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ غَنَائِمِ الْقَوْمِ ‏"‏وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ‏"‏، فِي أَنْفُسِكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏.‏ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عَبِيدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَمِنْ مَعَهُ، حَتَّى وَقَفَ بِالشِّعْبِ، ثُمَّ نَادَى‏:‏ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ‏؟‏ فَسَكَتُوا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ قُتِلَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ‏!‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ‏؟‏ فَسَكَتُوا، فَقَالَ‏:‏ قُتِلَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ‏!‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَفِي الْقَوْمِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏؟‏ فَسَكَتُوا، فَقَالَ‏:‏ قُتِلَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ‏!‏ ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ‏:‏ اعْلُ هُبَلُ، يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَحَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ، وَأَنْتُمْ وَاجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مَثْلًا لَمْ يَكُنْ عَنْ رَأْيِ سَرَاتِنَا وَخِيَارِنَا، وَلَمْ نَكْرَهْهُ حِينَ رَأَيْنَاهُ‏!‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ‏:‏ قُمْ فَنَادِ فَقُلْ‏:‏ اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ‏!‏ نَعَمْ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهَا أَنَا ذَا‏!‏ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّار‏)‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏، فَرَجَعُوا فَقَالُوا‏:‏ وَاللَّهُ لِنَأْتِيَنَّهُمْ، ثُمَّ لِنَقْتُلُنَّهُمْ‏!‏ قَدْ جُرِحُوا مِنَّا‏!‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَهْلًا؛ فَإِنَّمَا أَصَابَكُمُ الَّذِي أَصَابَكُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ عَصَيْتُمُونِي‏)‏ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمُ الْقَوْمُ قَدْ ائْتَشَبُوا وَقَدْ اخْتَرَطُوا سُيُوفَهُمْ، فَكَانَ غَمُّ الْهَزِيمَةِ وَغَمُّهُمْ حِينَ أَتَوْهُمْ ‏{‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ‏}‏، مِنَ الْقَتْلِ ‏{‏وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏، مِنَ الْجِرَاحَةِ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا‏}‏ الْآيَةَ، وَهُوَ يَوْمُ أُحُدٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ‏}‏ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بِحِرْمَانِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ غَنِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَالظَّفَرَ بِهِمْ، وَالنَّصْرَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ يَوْمَئِذٍ-بَعْدَ الَّذِي كَانَ قَدْ أَرَاكُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا تُحِبُّونَ- بِمَعْصِيَتِكُمْ رَبَّكُمْ وَخِلَافِكُمْ أَمْرَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَمَّ ظَنَّكُمْ أَنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، وَمَيْلَ الْعَدُوِّ عَلَيْكُمْ بَعْدَ فُلُولِكُمْ مِنْهُمْ‏.‏‏.‏

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مِمَّا خَالَفَهُ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏، وَالْفَائِتُ، لَا شَكَّ أَنَّهُ هُوَ مَا كَانُوا رَجَوْا الْوُصُولَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، إِمَّا مِنْ ظُهُورٍ عَلَيْهِمْ بغلَبِهِمْ، وَإِمَّا مِنْ غَنِيمَةٍ يَحْتَازُونَهَا وَأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏، هُوَ مَا أَصَابَهُمْ‏:‏ إِمَّا فِي أَبْدَانِهِمْ، وَإِمَّا فِي إِخْوَانِهِمْ‏.‏

فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنْ ‏"‏الْغَمَّ ‏"‏ الثَّانِيَ هُوَ مَعْنًى غَيْرُ هَذَيْنَ‏.‏ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ أَثَابَهُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِئَلَّا يُحْزِنُهُمْ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْغَمِّ النَّاشِئِ عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا مَا أَصَابَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْغَمُّ الْأَوَّلُ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَاهُ قَبْلُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْتُ، مِنْ أَنَّهُ‏:‏ ‏{‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ‏}‏، فَلَمْ تُدْرِكُوهُ مِمَّا كُنْتُمْ تَرْجُونَ إِدْرَاكَهُ مِنْ عَدُوِّكُمْ بِالظَّفَرِ عَلَيْهِمْ وَالظُّهُورِ، وَحِيَازَةِ غَنَائِمِهِمْ ‏{‏وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏، فِي أَنْفُسِكُمْ‏.‏ مِنْ جُرْحِ مَنْ جُرِحَ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ قَبْلُ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ الَّتِي كُنْتُمْ تَرْجُونَ ‏{‏وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ‏}‏، مِنَ الْهَزِيمَةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَاللَّهُ بِالَّذِي تَعْمَلُونَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مِنْ إِصْعَادِكُمْ فِي الْوَادِي هَرَبًا مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَانْهِزَامِكُمْ مِنْهُمْ، وَتَرْكِكُمْ نَبِيَّكُمْ وَهُوَ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ، وَحُزْنِكُمْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَمَا أَصَابَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ذُو خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ، وَهُوَ مُحْصٍ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ‏:‏ الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الَّذِي أَثَابَكُمْ رَبُّكُمْ بَعْدَ غَمٍّ تَقَدَمَهُ قَبْلَهُ ‏"‏أَمَنَةً‏"‏، وَهِيَ الْأَمَانُ، عَلَى أَهْلِ الْإِخْلَاصِ مِنْكُمْ وَالْيَقِينِ، دُونَ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالشَّكِّ‏.‏

ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، عَنِ ‏"‏الْأَمَنَةِ ‏"‏الَّتِي أَنْـزَلَهَا عَلَيْهِمْ، مَا هِيَ‏؟‏ فَقَالَ ‏"‏نُعَاسًا ‏"‏، بِنَصْبِ ‏"‏النُّعَاس‏"‏ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنَ ‏"‏الْأَمَنَةِ‏"‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يَغْشَى ‏"‏‏.‏

فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِالتَّذْكِيرِ بِالْيَاءِ‏:‏ ‏(‏يَغْشَى‏)‏‏.‏

وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ بِالتَّأْنِيثِ‏:‏ ‏(‏تَغْشَى‏)‏ بِالتَّاءِ‏.‏

وَذَهَبَ الَّذِينَ قَرَأُوا ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ، إِلَى أَنَّ النُّعَاسَ هُوَ الَّذِي يَغْشَى الطَّائِفَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْأَمَنَةِ، فَذَكَّرَهُ بِتَذْكِيرِ ‏"‏النُّعَاسِ ‏"‏‏.‏

وَذَهَبَ الَّذِينَ قَرَأُوا ذَلِكَ بِالتَّأْنِيثِ، إِلَى أَنَّ الْأَمَنَةَ هِيَ الَّتِي تَغْشَاهُمْ فَأَنَّثُوهُ لِتَأْنِيثِ ‏"‏الْأَمَنَةِ ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، غَيْرُ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَعْنَى وَلَا غَيْرِهِ‏.‏ لِأَنَّ ‏"‏الْأَمَنَةَ ‏"‏فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ النُّعَاسُ، وَالنُّعَاسُ هُوَ الْأَمَنَةُ‏.‏ فَسَوَاءٌ ذَلِكَ، وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ الْحَقَّ فِي قِرَاءَتِهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَظَائِرِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الدُّخَانِ‏:‏ 45‏]‏ وَ ‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنَى‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْقِيَامَةِ‏:‏ 37‏]‏، ‏{‏وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ مَرْيَمَ‏:‏ 25‏]‏‏.‏‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ افْتَرَقَتِ الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا افْتَرَقَتَا فِيهِ مِنْ صِفَتِهِمَا، فَأَمِنَتْ إِحْدَاهُمَا بِنَفْسِهَا حَتَّى نَعَسَتْ، وَأَهَمَّتِ الْأُخْرَى أَنْفُسَهَا حَتَّى ظَنَّتْ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَ لَنَا، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ انْصَرَفُوا يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَاعَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا مِنْ قَابِلٍ، فَقَالَ نَعَمْ‏!‏ نَعَمْ‏!‏ فَتُخَوِّفُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَنْـزِلُوا الْمَدِينَةَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ‏:‏ ‏"‏انْظُرْ، فَإِنْ رَأَيْتَهُمْ قَعَدُوا عَلَى أَثْقَالِهِمْ وَجَنَّبُوا خُيُولَهُمْ، فَإِنَّ الْقَوْمَ ذَاهِبُونَ، وَإِنْ رَأَيْتَهُمْ قَدْ قَعَدُوا عَلَى خُيُولِهِمْ وَجَنَّبُوا أَثْقَالَهُمْ، فَإِنَّ الْقَوْمَ يَنْـزِلُونَ الْمَدِينَةَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاصْبِرُوا ‏"‏ ووطَّنَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ‏.‏ فَلَمَّا أَبْصَرَهُمُ الرَّسُولُ قَعَدُوا عَلَى الْأَثْقَالِ سِرَاعًا عِجَالًا نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ بِذَهَابِهِمْ‏.‏ فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ صَدَّقُوا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَامُوا، وَبَقِيَ أُنَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقَوْمَ يَأْتُونَهُمْ‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ، يَذْكُرُ حِينَ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانُوا رَكِبُوا الْأَثْقَالَ فَإِنَّهُمْ مُنْطَلِقُونَ فَنَامُوا‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسَهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَمَّنَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِنُعَاسٍ غَشَّاهُمْ‏.‏ وَإِنَّمَا يَنْعَسُ مَنْ يَأْمَنُ ‏{‏يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، عَنْ حَمِيدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ‏:‏ كُنْتُ فِيمَنْ أُنْـزِلَ عَلَيْهِ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ أَمَنَةً، حَتَّى سَقَطَ مِنْ يَدِي مِرَارً قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي سَوْطُهُ، أَوْ سَيْفُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ‏:‏ رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلْتُ مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا تَحْتَ حَجَفَتِهِ يَمِيدُ مِنَ النُّعَاسِ‏.‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ الْمُثْنِي قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ‏:‏ كُنْتُ فِيمَنْ صَبَّ عَلَيْهِ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ‏:‏ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِمَّنْ غَشِيَهُ النُّعَاسُ، قَالَ‏:‏ كَانَ السَّيْفُ يَسْقُطُ مِنْ يَدِي ثُمَّ آخُذُهُ، مِنَ النُّعَاسِ‏.‏

حَدَّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ذَكَرَ لَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، عَنْ أَنَسٍ‏:‏ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ حَدَّثَهُمْ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِمَّنْ غَشِيَهُ النُّعَاسُ، قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الْمُنَافِقُونَ، لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةً إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، ‏"‏يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ‏"‏، الْآيَةَ كُلَّهَا‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ أُلْقِيَ عَلَيْنَا النَّوْمُ يَوْمَ أُحُدٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا‏}‏، الْآيَةَ، وَذَاكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، كَانُوا يَوْمَئِذٍ فَرِيقَيْنِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَغَشَّاهُمُ اللَّهُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثْنِي قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَمَنَةً نُعَاسًا‏}‏، قَالَ‏:‏ أُلْقِيَ عَلَيْهِمُ النُّعَاسُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَمَنَةً لَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أَمَنَةٌ، وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا‏}‏، قَالَ‏:‏ أَنْـزَلَ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ عَلَى أَهْلِ الْيَقِينِ بِهِ، فَهُمْ نِيَامٌ لَا يَخَافُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَمَنَةً نُعَاسًا‏}‏، قَالَ‏:‏ أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ، فَكَانَ ‏"‏أَمَنَةً لَهُمْ ‏"‏‏.‏ وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ‏:‏ أُلْقِيَ عليَّ النُّعَاسُ يَوْمَئِذٍ، فَكُنْتُ أَنْعَسُ حَتَّى يَسْقُطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُمَا قَالَا لَقَدْ رَفَعْنَا رُءُوسَنَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعْلنَا نَنْظُرُ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَمِيلُ بِجَنْبِ حَجَفَتِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ مِنْكُمْ‏}‏، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ‏{‏قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ هُمْالْمُنَافِقُونَ لَا هَمَّ لَهُمْ غَيْرُ أَنْفُسِهِمْ، فَهُمْ مِنْ حَذَرِ الْقَتْلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَخَوْفِ الْمَنِيَّةِ عَلَيْهَا فِي شُغُلٍ، قَدْ طَارَ عَنْ أَعْيُنِهِمُ الْكَرَى، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ الْكَاذِبَةَ، ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، شَكًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَتَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَحْسَبَةً مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ خَاذِلٌ نَبِيَّهُ وَمُعْلٍ عَلَيْهِ أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ، يَقُولُونَ‏:‏ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ‏.‏ كَالَّذِي‏:‏- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى‏:‏ الْمُنَافِقُونَ، لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، أَجْبَنُ قَوْمٍ وَأَرْعَبُهُ وَأَخْذُلُهُ لِلْحَقِّ، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظُنُونًا كَاذِبَةً، إِنَّمَا هُمْ أَهْلُ شَكٍّ وَرِيبَةٍ فِي أَمْرِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الْمُنَافِقُونَ، لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةً إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ، ‏{‏يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏}‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَهْلُ النِّفَاقِ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ تَخَوُّفَ الْقَتْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ عَاقِبَةً‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَهْلَ الشِّرْكِ‏.‏ كَالَّذِي‏:‏- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ ظَنُّ أَهْلِ الشِّرْكِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ ظَنُّ أَهْلِ الشِّرْكِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَفِي رَفْعِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَطَائِفَةٌ ‏"‏، وَجْهَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا، أَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏قَدْ أَهَمَّتْهُمْ ‏"‏‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ‏"‏، وَلَوْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً كَانَ جَائِزًا، وَكَانَتْ ‏"‏الْوَاوُ ‏"‏، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَطَائِفَةٌ ‏"‏، ظَرْفًا لِلْفِعْلِ، بِمَعْنَى‏:‏ وَأَهَمَّتْ طَائِفَةً أَنْفُسُهُمْ، كَمَا قَالَ ‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الذَّارِيَاتِ‏:‏ 47‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِيُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ الطَّائِفَةَ الْمُنَافِقَةَ الَّتِي قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَقُولُونَ‏:‏ لَيْسَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ، قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَلَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا خَرَجْنَا لِقِتَالِ مَنْ قَاتَلْنَا فَقَتَلُونَا‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبِيٍّ‏:‏ قُتِلَ بَنُو الْخَزْرَجِ الْيَوْمَ‏!‏ قَالَ‏:‏ وَهَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ‏؟‏ قِيلَ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ‏!‏‏.‏

وَهَذَا أَمْرٌ مُبْتَدَأٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ‏}‏، يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ وَيُدَبِّرُهُ كَيْفَ يُحِبُّ‏.‏

ثُمَّ عَادَ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ ذِكْرِ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يُخْفِي، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ، فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالشَّكِّ فِي اللَّهِ، مَا لَا يَبْدُونَ لَكَ‏.‏ ثُمَّ أَظْهَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانُوا يُخْفُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَالْحَسْرَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ عَلَى حُضُورِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَشْهَدَهُمْ بِأُحُدٍ، فَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ قَيْلِهِمُ الْكُفْرَ وَإِعْلَانِهِمُ النِّفَاقَ بَيْنَهُمْ‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ، أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ‏:‏ لَوْ كَانَ الْخُرُوجُ إِلَى حَرْبِ مَنْ خَرَجْنَا لِحَرْبِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْنَا، مَا خَرَجْنَا إِلَيْهِمْ، وَلَا قُتِلَ مِنَّا أَحَدٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قُتِلُوا فِيهِ بِأُحُدٍ‏.‏

وَذَكَرَ أَنَّ مِمَّنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، مُعَتِّبُ بْنُ قَشِيرٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ‏.‏

ذَكَرَ الْخَبَرَ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ إِنِّي لِأَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قَشِيرٍ، أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَالنُّعَاسُ يَغْشَانِي، مَا أَسْمَعُهُ إِلَّا كَالْحُلْمِ حِينَ قَالَ‏:‏ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏!‏

حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، بِمِثْلِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ‏}‏، بِنَصْبِ ‏"‏الْكُلِّ ‏"‏عَلَى وَجْهِ النَّعْتِ لـ ‏"‏الْأَمْر‏"‏ وَالصِّفَةِ لَهُ‏.‏

وَقَرَأَهُ بَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ‏}‏ بِرَفْعِ ‏"‏الْكُلِّ ‏"‏، عَلَى تَوْجِيهِ ‏"‏الْكُلِّ ‏"‏إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ، وَقَوْلُهُ ‏"‏لِلَّه‏"‏ خَبَرُهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏إِنَّ الْأَمْرَ بَعْضُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ‏.‏‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ‏"‏الْكُلُّ ‏"‏ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالنَّصْبِ، مَنْصُوبًا عَلَى الْبَدَلِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا، النَّصْبُ فِي ‏"‏الْكُلِّ ‏"‏ لِإِجْمَاعِ أَكْثَرِ الْقَرَأَةِ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى خَطَأً فِي مَعْنَى أَوْ عَرَبِيَّةٍ‏.‏ وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ فِي ذَلِكَ مُسْتَفِيضَةً فِي الْقَرَأَةِ، لَكَانَتْ سَوَاءً عِنْدِي الْقِرَاءَةُ بِأَيِ ذَلِكَ قُرِئَ، لِاتِّفَاقِ مَعَانِي ذَلِكَ بَأَيِّ وَجْهَيْهِ قُرِئَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِلَّذِينِ وَصَفَتُ لَكَ صِفَتَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ‏:‏ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَمْ تَشْهَدُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَشْهَدَهُمْ، وَلَمْ تَحْضُرُوا مَعَهُمْ حَرْبَ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيَظْهَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا كُنْتُمْ تُخْفُونَهُ مِنْ نِفَاقِكُمْ، وَتَكْتُمُونَهُ مِنْ شَكِّكُمْ فِي دِينِكُمْ ‏{‏لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَظَهَرَ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ مَصْرَعُهُ فِيهِ، مِنْ قَدْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ مِنْهُمْ، وَلَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يُصْرَعَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصْرَعَ فِيهِ‏.‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ، أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ، كُنْتُمْ تَبْرُزُونَ مِنْ بُيُوتِكُمْ إِلَى مَضَاجِعِكُمْ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ‏}‏، وَلِيَخْتَبِرَ اللَّهُ الَّذِي فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الشَّكِّ، فَيُمَيِّزُكُمْ بِمَا يُظْهِرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِفَاقِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعَانِيَ نَظَائِرَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ‏}‏ وَ‏"‏وَلِيَعْلَمَ اللَّه‏"‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ الْوَصْفَ بِهِ، فَمُرَادٌ بِهِ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَلِيَخْتَبِرَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَأَهْلَ طَاعَتِهِ الَّذِي فِي صُدُورِكُمْ مِنَ الشَّكِّ وَالْمَرَضِ، فَيُعَرِّفُوكُمْ، ‏[‏فَيُمَيِّزُوكُمْ‏]‏ مِنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ ‏{‏وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏، يَقُولُ وَلِيَتَبَيَّنُوا مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الِاعْتِقَادِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَدَاوَةِ أَوْ الْوِلَايَةِ‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِالَّذِي فِي صُدُورِ خَلْقِهِ مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِهِمْ، سَرَائِرُهَا عَلَانِيَّتُهَا، وَهُوَ لِجَمِيعِ ذَلِكَ حَافِظٌ، حَتَّى يُجَازِيَ جَمِيعَهُمْ جَزَاءَهُمْ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ ذَكَرَ اللَّهُ تَلَاوُمَهُمْ-يَعْنِي‏:‏ تَلَاوُمَ الْمُنَافِقِينَ- وَحَسْرَتَهُمْ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ‏:‏ ‏{‏لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ‏}‏، لَمْ تَحْضُرُوا هَذَا الْمَوْضِعَ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِ مِنْكُمْ مَا أَظْهَرَ مِنْ سَرَائِرِكُمْ، لَأَخْرَجَ الَّذِي كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ إِلَى مَوْطِنٍ غَيْرِهِ يُصْرَعُونَ فِيهِ، حَتَّى يَبْتَلِيَ بِهِ مَا فِي صُدُورِكُمْ ‏{‏وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏، أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي صُدُورِهِمْ، مِمَّا اسْتَخْفَوْا بِهِ مِنْكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ بَحْرٍ السِّقَاءِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبِيدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَتَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُقَاتِلُ يُقْتَلُ، وَلَكَِنْ يُقْتَلُ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقَتْلَ‏.‏